لماذا "الراب المحابسي"؟ لماذا لا أترك الموسيقى بعد أن تم حبسي ثلث مرات؟ أي دور يلعب الراب في الدفاع عن المجتمع ضد من يحكمونه بالفساد والاستغلال؟
سأخبركم قصة قصيرة. في صيف ٢٠٠٧ حينما كنت في العشرين من عمري، بدأت في أخذ الراب على محمل الجد وذلك بتأسيس فرقة أسميناها “عكاشة فاميلي." اخترنا حينها المقاومة والراب، مقررين نشر أغنية لنا على اليوتيوب نتداولها بين أصدقائنا. أغنية "عطيني حقي" نجحت وقدمنا عرضنا الأول. لم يعرف منظمو الحفل محتوى الأغاني قبل الحفل. صدم الجمهور بكلمات - الكلمات التي تعبر عن همومهم- أول أغنية راب في المغرب تتحدث عن حقوقهم ومقاومة السلطات وتجاوز الخطوط الحمراء.
بعد بدء الحفل، جاء أحد المنظمين إلى الخشبة وطلب منا إنهاء الحفل ثم بدأ في مجادلتنا.
“من أنتم؟ من أنتم؟" سألنا عدة مرات. بعد التحقيق معنا تركنا نتساءل فيما بيننا "هل نمثل خطراً كبيراً على السلطات فقط لأننا نقول الحقيقة؟"
طبعاً.
كان هنالك سؤال واحد علينا الاجابة عليه في تلك اللحظة: هل سنقف مع الناس أم مع الدولة؟ لكننا احتجنا لأن نفهم أيضاً: لماذا اخترنا الراب لهذه القضية؟ وأي أسلوب من الراب؟
الراب والسياسة
بينما كنت أتعلم عن الراب والسياسة – والسجن خير مكان للتعلم – فهمت أربع نقاط يجب علي التركيز عليها كمغني راب وناشط.
مع مرور الوقت وإصدار الأغاني بشكل منفرد أو بالتعاون مع آخرين، استطعت أن أرى بنفسي قدرة الراب على الوصول للشباب والتأثير فيهم، وقوة هذا الفن على الانتشار بين هذه الشريحة. رغم التعتيم الإعلامي والإقصاء والرقابة الممارسة ضدنا، شعرنا بقوة الراب وكلمات الحرية وقدرتها على التصدي للأنظمة القمعية.
أصبحت خطراً على النظام، على حماة السلطة. هذا الطريق، بالطبع، قادني إلى السجن، وفي كل مرة يطلق سراحي، يسألني الناس ذات السؤال: “هل ستكمل مسيرتك؟ هل ستتغير كلمات أغانيك؟"
أعترف أنني سألت نفسي: هل هذا الطريق الأفضل؟ هل أستمر في هذا الطريق أم أبيع مبادئي وكرامتي، وأسير خلف القطيع مطأطئاً رأسي للسلطان لأحصل على رضاه مثل مغنيي راب آخرين؟ قد أصل بذلك إلى الجوائز والشهرة إلا أنني لا أرى نفسي عبداً يطبل للحاكم، باحثاً عن رضاه بابتسامة. اخترت الموسيقى كسلاح لقول الحقيقة لأكبر قدر من الناس، ولن أتخلي عن ذلك من أجل أي شخص أو شيء.
الراب والدولة
الدولة المغربية لم تأبه لالراب كثيراً حين انطلق في ١٩٩٤، معتبرة إياه مجرد موجة عابرة. منذ البداية وحتى ٢٠٠١، لم يكن هناك الكثير من الفاعلين في هذا الفن إلا أن الأغاني تحدثت عن قضايا ومواضيع تهم الشباب مثل البطالة وإدمان المخدرات وأشكال التهميش.
مع نمو المشهد، فهمت الدولة أن الراب خطير مما جعل مؤسساتها تبدأ بخلق ودعم مهرجانات للسيطرة على هذا الفن. بما أن أغلب الفنانين غير مهتمين بمواجهة السلطة أو الحفاظ على الشخصية الثورية للراب المتمرد فقد كانت مهمة الدولة سهلة.
بالتالي فإن المسؤولية ملقاة على القليل منا ممن اختاروا قول الحقيقة في فنهم بشجاعة مثل تلك التي أشعلت الثورات العربية قبل سنوات.
في ٢٠٠٧، بدأ نوع جديد من الراب بالانتشار، بجهود بعض الفرق تحدثت عن قضايا اجتماعية أكثر منها سياسية. كان هذا النوع أصيلاً لا يقلد غيره. تلك الأفكار الخطيرة التي جعلت السلطات ترغب بإسكاتنا ووضعنا في سجن كبير للأفكار والحريات.
ولادة راب السجن
أسمينا فننا "الراب المحابسي" أي (راب السجن) – نعبر فيه عن الواقع ونغني عن الحرية وتحطيم القيود وتجاوز الحدود. علينا أن نعي قوة راب السجن في مشهد فني يغلب عليه المتلونون وطبالو السلطة. بإمكاننا عد مغني الراب المسّيسين في المغرب على اليد الواحدة. إلا أن العدد الصغير يجعل موسيقانا أقوى بكثير. لقد منح السجن الفكري والثقافي المزيد من القوة لموسيقانا، لكن الدولة لا تعي هذا.
من خلال تصوير واقع المجتمع بصراحة كاملة، يلعب الراب المقاوم دوراً مهماً في خلق مساحة للنقد وتقديم رؤية مغايرة. من دون قوة النقد، لا يمكن للناس أن يتقدموا. كلنا نعلم أن الحقوق لا تمنح بل تؤخذ.
لذا أقول بأنه من واجبنا كحركة مقاومة جدية، والفنانين العاملين فيها، أن نحاول تعليم وتنوير الناس. بينما نشهد انتشار الراب السياسي بعد الثورات العربية، نجد أن مستوى الحريات تراجع حيث تستمر الدولة في قمعها لنقادها بقسوة متزايدة.
لذلك تريد الدولة اليوم أن تحبسني مرة أخرى لأنني أعبر عن الغضب الذي نحس به تجاه قمعها ولأنني أتحدث عن قضايا حساسة جداً في موسيقاي. هذا يجعل مني شخصاً خطيراً، ففي هذه الدولة النامية مثل بلادنا، أي شخص يتجاوز الخطوط الحمراء يعتبر خطيراً.
لم يغيرني السجن أبداً. بل على العكس، منحني المزيد من الوقت في عزلة لأتأمل وأطور أفكاري، أقرأ المزيد من الكتب وألتقي بمحبي في السجن الذين يمنحوني الكثير من الأمل. في ذات الوقت، علمتني تجربة السجن أن الكلمات التي أغنيها يجب أن تكون مفهومة، خاصة في وجود هيمنة الدولة على الإعلام.
في النهاية، مازلت مؤمناً بأن "الراب المحابسي" سيساعد جيلي وكل المغاربة على الاقتراب من الحرية. ومن أجل ذلك، سأدفع أي ثمن تفرضه علي السلطة.
[نشر هذا المقال سابقا على موقع "الجزيرة" باللغة الإنجليزية.]